سلطة الصعاليك
ومؤسسها الصعلوك الكبير
حافظ الأسد
عرفنا أن " الصعاليك " جمع صعلوك ، وهي صفة أو لفظة تُطلق على الأشخاص الضعفاء والمنبوذين ومن لا شأن لهم أو قيمة في المجتمع.
والأكيد أن هذا الفهم ربما يكون قد تولد من خلال الاستخدام المفرط لهذه اللفظة ، خصوصاً في حالات الهجوم أو الرد على الاستفزاز أو الغضب أو الإحراج ، وأحياناً كنوع من الازدراء والذم والتحقير للآخر..
وفي اللغة " الصعلوك " هو الفقير الذي لا يملك المال الذي يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة ، ولكن اللفظة تجاوزت دلالاتها اللغوية و أخذت معاني أخرى ، كقطاع الطرق الذين يقومون بعمليات السلب و النهب.
كما أن " الصعاليك " تسمية قديمة كانت تطلق على جماعة من العرب لهم فلسفتهم الخاصة في الحياة ، عاشوا في عصر ما قبل الإسلام ، تحديدا في منطقة نجد وسط الجزيرة العربية ، وهم من قبائل عربية مختلفة .
هؤلاء بالاستناد لما ذكرت ، كانوا متمردين على مجتمعاتهم التقليدية ، رفضوا التقيد بالكثير من تقاليدها الموروثة ، ولم يعترفوا بسلطة القبيلة وواجباتها ، ما جعلهم بذلك خارجين عن أعرافها وتقاليدها ، لكن بالمقابل معظمهم كانوا " شعراء فحول " ولهم قصائد معروفة ، وتُعد اليوم هذه القصائد من عيون الشعر العربي ، ولعل الشاعر المعروف " عُرْوة بن الوَرْد " أشهرهم على الإطلاق ، حيث كان يسمى " عروة الصعاليك " لأنه كان يجمع الفقراء ويعطيهم مما يغنمه.
المهم في الأمر ، وبعد هذا المدخل البسيط ، وصولاً لما كان يعنيني من نبش هذا الموضوع ، وما كنت ارمي إليه أو من خلاله ، هو محاولة متواضعة لمعرفة هدف هؤلاء " الصعاليك " في زمنهم حينذاك ، ولو من خلال ما كُتب عنهم ، أو بحسب ما نقلته لنا ما تبقى من كتب التاريخ العربي القديم ، ثم وجدتني مع الوقت أعجب بالكثير منهم ، عندما أقترب من فهم شيء مما كان واحدهم يسعى إليه .
الحقيقة أن إعجابي " بشخصية الصعلوك " الإنسانية التي ارتسمت في مخيلتي .. فكانت رائعة وجميلة ولو لم تكن مكتملة ، وربما هذا الأمر هو الذي جعلني باحث فضولي وجاد أبحث بجد في أسباب نشأتها ، وكانت تزداد عندي صورة هذه الشخصية روعة وجمالا ، ويزداد إعجابي بها كلما توغلت أكثر في كتب التاريخ ، وعرفت عنها أكثر وأكثر ..
لكن الغريب في الأمر أن صورة الصعلوك التي أعجبتني في البداية ، للأسف الشديد صورتها بدأت تتعكر أمامي بشكل تدريجي وتتلاشى معظم خطوطها ومعالمها ولمساتها الجمالية ، ويظهر بدل عنها صورة بشعة لـ " الصعلوك " والمسخ الابشع " حافظ الأسد " ..
طبعا هنا ومع بشاعة هذا الاخير تبدل مفهوم الصعلوك .. وصار له مفهوم اخر لعامة الناس ، فـ " حافظ الأسد " هو صعلوك ..لكن وفق المفهوم الحالي وليس الماضي .. وهذا الذي ساحاول ان أن افعله وذك من خلال ربط المعنيين وعلاقة المسخ الابشع " حافظ الأسد " بهما على ما اعتقده ..
فما وصلت اليه وما استشعرته مما كُتب عنه ، وفي إطار رؤيتي الخاصة ، ومن خلال اطلاعي المتواضع على تاريخ حياته ، أستطيع القول بحسب فهمي لسلوكه ونهجه على مدى فترة حكمه أنه " حاول بدهاء ومكر وخبث ، وقد يكون نجح إلى حد بعيد في تمثيل أو استحضار شخصية " الصعلوك " من الماضي ، وتقمص ذلك الإنسان الساعي لخدمة غيره " ..
حيث قام بدور مشبوه ساعدته الظروف الإقليمية والدولية فى القيام به ، فظهر بصورة " القائد الخالد لشعب خالد أنكر ذاته ايثارا " في سبيل غيره ، وتخلى عن كل احتياجاته وحتى متطلبات عيشه لحياة كريمة ، فداءاً وإقداماً وتعاطفاً مع قضية العرب الأولى ، قضية فلسطين وشعبها المشرد ، فكانت هي الهدف قبل توفير الخبز والماء ، فربط بذلك " شخصه " بطموحات الشعوب العربية المنكوبة أصلا بزعاماتها المفضوحة ، ما أدى الى تعاطف عربي ما معه وتجاه ما ادعاه زوراً وبهتاناً ..!
وقد أستهدف بذلك اللعب على العواطف الملتهبة والمكسورة ، ودخل كالجرثومة في مفاصل الإرث الثقافي العربي المنخور ، وراح يعمل تحت جنح ظلام المرحلة السابقة ، وبصمت الغادر الحاقد على تأسيس سلطته " المافياوية الأقلوية الطائفية التي تحالفت مع المذهبية الإيرانية الصاعدة في المنطقة " لتكون له الدرع الحامي في حياته من أي حراك شعبي سوري داخلي ضده ، بعدما عرف وتيقن أن الداخل السوري كان مدركا لألاعيبه ، وينتظر الفرصة المناسبة لازاحته .
هذا النهج " ألصعلوكي " على بشاعته وانكشافه ، نال أيضاً في بدايته رضا وقبول ودعم " الخارج الأقوى " صاحب المصالح المختلفة والمتنوعة والمتشعبة في المنطقة ، ولم لا وهو الساعي الدائم لدعم مثل هكذا " صعاليك مقاوله " ونشيطة تؤمن المصالح بشكل مقبول ..
هنا بدأ دور" حافظ الأسد " ، وبدأ الأهتمام الدولي المصالحي به ، بعدما تيقنوا من هم في الخارج أنه الانتهازي الوصولي المطلوب ، والجاهز بشكل دائم لتقديم الخدمة المطلوبة ، التي طالما انه تقدم لها طوعاً وبرغبة ، ووافق على رهن نفسه في خدمة الطالب لها ، ولو على حساب " الشعب السوري الذي كان بطبيعة الحال الأضعف في تلك المرحلة " ، فهو الشعب المتنوع والمهمش والمشبّع فوق هذا وذاك بالفكر القومي العربي ..
لذلك قام " حافظ الأسد " بدور فاق حجمه وإمكانياته الشخصية بمعزل عن الشعب السوري ، في مقابل كسب شرعية لحكمه من الدول العظمى صاحبة القرار في العالم ، وقد تحقق له ذلك ، فمن جهة كسب شرعية دولية ، ومن جهة اخرى كسب شرعية عربية ، فقد مثل دور " القائد القومي العربي الأمين " المدافع عن قضايا أمته ونجح بهذا الدور للأسف ..
لا بل أتقن التمثيل للدرجة التي صدّقه كثيرون من العرب ، فاستثمر هذا النجاح وأنشئ في ظله " سلطته الغامضة " المعالم والمجهولة الأركان ، والتي ارتكزت على قواعد مبهمة ، غير مألوفة في نظم " الجمهوريات " الموجودة في عالم السياسة المعاصر، فَسَهُلت له السيطرة على الداخل السوري ، وتحققت مصلحته مع عائلته التي كان يسعى لها ، فحكم البلاد والعباد بالحديد والنار بلا حساب ولا عقاب ، وجعل الوطن السوري بما فيه ملكا له ومورثا لأولاده .
لقد حاول " حافظ الأسد " استنساخ نسخة متطورة لكنها ممسوخة للصعلوك العربي الشهم الذي عرفناه في كتبنا التاريخية ، أو هكذا أراد أن يبدو لنا الأمر ، لكن هذا الاستنساخ ظهر لنا بعد فترة قصيرة من الزمن مسخ مشوه وقميئ ، بعدما أهمل عن عمد الداخل السوري الذي ما كان سيشعر انه منبوذا فيه لو اخلص له النية من البداية ، ولم يبني حول شخصه المريض هالة من النضال الكاذب المرتكز والمتمركز على شعارات قومية هلامية رجراجة لا معنى لها على أرض الواقع ، ولو أنه بها تمكن من احتواء بعض الداخل لما بعد موته .
ما اعتقده أن تلك الشخصية بالرغم من نجاحها المرحلي لم تبدو ولم تستمر كما أراد لها أن تكون ، بل بدت لنا مشوهة ممسوخة ، إذ كيف يعطي الإنسان المنبوذ والمكروه والحاقد الخير لغيره وهو لا يملك بالأصل شيئا يعطيه لشعبه ..!
كثيرون قبلي يسألون هل من شيء تحقق في زمنه إلا التعاسة والبؤس والتخلف ، والتأخر عن ركب الحضارة الإنسانية ، إلا اللهم إذا اعتبر البعض حالة الموات التي يحلو للبعض وصفها بمرحلة " الأمن والأمان " ..!؟
بينما الحقيقة التي يعرفها الجميع أنها كانت مرحلة قمع وإرهاب مورس بحق الشعب السوري ، وربما الشعارات التي كان يطلقها طلاب الطلائع والشبيبة تمجيدا له حتى وهو ميت ، تعطي مؤشرا على حجم الرعب الذي كان حينها ، هذه هي الحقيقة الجلية ، ولا ندري إن كان هناك أي انجاز اخر تحقق ونحن لا نعلم به ..
" حافظ الأسد " نسي أن من امتهن " الصعلكة " فيما مضى أو من ذكرهم تاريخنا العربي لم يكن أحدهم يقصد امتهانها ، كما نسي أو تناسى أن الصعلوك كان نوع نادر من البشر ، نقي السرية يعطي أكثر مما يأخذ ، ويُؤْثر الآخر على نفسه بطريقة عجيبة أسطورية ، ربما نقلت لنا الروايات التاريخية جزء بسيط من صفاتها ، بالتالي ربما أدرك أنه لن يستطيع واحد وصولي انتهازي مثله أن يتصعلك ويصل لقلوب الناس مثلهم ..
فقد تمثلت جل سلوكيات صعاليك العرب في الماضي ، بإنكار الذات وربما استرخاصها ، ومواجهة المخاطر كيفما كانت في مقابل مساعدة ونجدة الآخرين ، ودائما ما كان السمو ألقيمي والإنساني هو الطاغي على " الأنا " ورغباتها الدنيئة ، وغلبة القيم الإنسانية العليا على حساب المصالح الشخصية الفردية الضيقة ، والخوف من أن لا يُعاب ويظهر واحدهم بمظهر الجبان الخسيس ..
إذاً محاولته تمثيل أو تجسيد شخصية الصعلوك من خلال التظاهر بالحامل لهموم العرب وقضاياهم ، ربما تكون قد نجحت لبعض الوقت اقلها ظاهريا ، وقد تكون انطلت على كثيرين من السُذّج ، لكنها فشلت فشلا ذريعا بعد انفضاحها ، لسبب واحد وبسيط .. هو أن " حافظ الأسد " لم يكن صعلوكا حقيقيا ولا يمت لـ " الصعاليك " الأوائل وقيمهم بأي صلة ، فتوظيفه " القومية العربية " لمصالحة وبالشكل المفضوح الذي بدا به لم يقنع حتى الأطفال ، فقد انكشفت نواياه وسقطت ألاعيبه وسقط كل نهجة وفكره بعد الثورة سقوطا ذريعاً ، وظهرت اليوم عورات كل مؤيديه المقرفة بعد أن افقد معها للأسف الشديد معنى " النخوة " وأفرغها من محتواها الإنساني والأخلاقي .
فإهماله الهم الوطني الداخلي السوري وركنه جانبا بطريقته الخبيثة التي اتبعها مع السوريين ، وتناسيه مسألة التنمية والتطوير الداخلي ، وتعطيله الحركة السياسة والاقتصادية والثقافية ، وهيمنته بعسكره ومخابراته على السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية الرقابية و القضائية ، وجعل أفراد الشعب كما العبيد مسلوبي الإرادة والتفكير ، تهتف باسمه ليلا نهارا ، حوّل شخصه ليس لمستبد قذر فقط ، بل الى مغتصب وقح وبشع وخسيس بدل أن يكون كما الصعاليك الأوائل يتصف بما يتصفون به من رجولة وشهامة .
في النهاية نقول لقد جعل " حافظ الأسد " من نفسه " اله " يحكم ويملك الأرض السورية ومن عليها إلى الأبد ، مفترضا أن له دور كبير في هذا العصر ، ربما يفوق دور الصعاليك فيما مضى ، بعدما عرف أو استشعر أن الناس تحترم شخوص الصعاليك التي وردت أسماءهم في التاريخ ، والذين أصبحوا من الخالدين بما قدموه ، فلم يجد أفضل من مقاربة دوره بتبني الأهداف القومية المشتركة مع دور صعاليك الماضي ، وللتأكيد على مسألة " دور مزعوم قام به " فقد راح ينشر تماثيله وصورة في كل مكان في سوريا ، وربط كل البلد باسمه ، كصعلوك العرب الأول في القرن العشرين " حافظ الأسد " ، في محاولة منه لتمجيد وتخليد ذاته ، وتطّبيع الناس على ذلك وتدجينهم على الخضوع لإرادته ونهجه ، ومنع أي محاولة لكشف زيفه ، وحقده ، وتلاعبه بمصير الشعب السوري ، بالتالي اعتبر بأنه إن مد به العمر فلا يُكشف العبث والتبديد الأرعن والمتهور لمقدرات سوريا ، وإن مات بطبيعة الحال لن يفضحوا أنفسهم ورثته المستفيدون بفضحه ..
أخيرا " حافظ الأسد " ، كان وسيبقى في نظر السوريين هو ذلك النذل الانتهازي الوصولي المغتصب ، وأس فساد البلاد والعباد ، في مرحلة سوداء من تاريخ سوريا والمنطقة ، وهو " صعلوك " بالمفهوم الحالي لمعنى صعلوك ، لا بالمعنى القديم ، عندما جعل " نهج التخويف و ثقافة المؤامرة التي بنى على هذه الأسس دولة الرعب " والتي راحت تصب أخيراً في مصلحته ومصلحة عائلته واستمرارية وجودها في السلطة من بعده ، بعكس تماما .. ما عمله صعاليك العرب ... .