( الطائفة و الطائفية )
لم نشهد في يوم من الأيام اصطفاف طائفي في المنطقة كما نشهده اليوم ، ولم تظهر الطائفية بهذا الشكل الفاضح والقبيح إلا في هذا الزمن ، ولم تكن في دائرة اهتمام أحد من قبل كما هو حالها اليوم ، ولعل الطائفي الأول ، وأول من ربط عربة الطائفية خلف حصان الاستبداد ، واستغل بها أبناء الطوائف خصوصا منهم البسطاء والمهمشين أسوأ استغلال ، والذي يستحق لقب الطائفي الأول بلا منازع ، هو " حافظ الأسد " ..!!
فهو الذي جاء بانقلاب عسكري ، تسلم بعده السلطة عنوة ، ولم يكن في ذهنه على ما يبدو أي برنامج عمل حقيقي ، ولا مشروع تنموي حضاري لبناء الدولة الحديثة التي تواكب العصر ، تكون بها المرجعيات الإدارية في كل شئونها تابعة لمؤسسات متخصصة ومنفصلة عن بعضها البعض ، وتراقبها بحرية وعن كثب وبلا قيود " الصحافة الحرة " أو السلطة الرابعة..!
لكنه .. وحتى يحقق حلمه المريض بالرئاسة ،لم يجد أفضل وسيلة من استغلاله البشع لعواطف ومشاعر بعض المنتمين للطوائف وعلى رأسهم أبناء الطائفة العلوية ، فلعب على العواطف والمشاعر المتصلة والمعنية بمصالحهم الآنية والمطمئنة لهواجسهم المستقبلية ، واستنفر فيهم الشعور المعتل والكامن في مسألة خصوصية الانتماء لهذه الطوائف بشكل عام ، وللطائفة العلوية بشكل خاص ، كونهم في المحصلة أقليات ينتابهم شعور رهاب الاجتماعي ، أو اضطراب القلق الاجتماعي الاقلوي ، فقد اشتغل " حافظ الأسد " بدهاء على استثارة بُعد التمايز بنفوس مكوناتها ، مستغلا طبيعة المرحلة والظروف الدولية ومصالح القوى الكبرى في العالم ، الأمر الذي ربما كان له دور أساسي ، ومساهمة فعالة في تمكينه من بناء سلطة عائلية انحصرت في عائلته الصغيرة فقط ..
( تعريف الطائفة )
إذا اتفقنا على تعريف الطائفة بأنها جماعة دينية أو سياسية أو اجتماعية تفترق عن مجموعة أكثر شمولية وأقدم في النشأة ، وغالبا ما تشير إلى جماعات صغيرة مستقلة سواء بعقائدها أو برؤيتها ، أو بتصوراتها ، ولها خصوصيتها على المستوى الاجتماعي مثال " العلويين ، الاسماعيليين الدروز ..الخ " ..
( تعريف الطائفية )
من الطبيعي وإلحاقا بما سبق حول تعريف " الطائفة " أن نصل إلى تعريف منطقي ومقبول لـ " الطائفية " ، التي هي لا تتعدى كونها حالة شعورية بـ " التميز " والاختلاف تتصل بالانتماء لطائفة معينة دينية كانت أو اجتماعية ، ولكن ليست عرقية بطبيعة الحال ، فمن الممكن أن يجتمع عدد من القوميات في طائفة واحدة بخلاف أوطانهم أو لغاتهم .. وقد تكون أيضاً حالة شعورية استعلائية تميزية تنظر للآخر نظرة دونية فيها الكثير من الاستخفاف والاحتقار ..
وهذا ربما ينسحب على حالة " الطائفية القائمة في سوريا " ، التي كما ذكرت آنفا لعب عليها وطورها " حافظ الأسد " لتصب أخيرا نتيجتها في صالحة ، أو حتى نكون واضحين ، ونضع النقط على الحروف حالة " الطائفية في بعض مكونات الطائفة العلوية السورية " ، التي أُقيمت على أسس متينة من التخويف والترعيب والترهيب ، والتي تعتبر حالة ملتهبة بمنتهى الوضوح ، حيث ارتبط لهيبها بالسلطة والفساد الذي أنتج الكثير من المكاسب المادية والمعنوية لبعض الفاعلين فيها من أبناء " الطائفة " ، والذين كان لهم الدور الأهم في نشوء ما يشبه " حالة من الدفاع المستميت عن هذا الانتماء المريض " عند بعض الجهلاء من والعامة فيها ، وليس بمستغرب دفاعهم هذا عن " طائفيتهم المستثارة " ، واعتبارهم في كثير من الأحيان أن هذا الدفاع هو دفاعاً مشروع عن وجود " الطائفة " التي ينتمون إليها ..!!
وهذا قد يكون مفهوما ويمكن للمطلع قليل على الوضع العام أن يتفهم ذلك أيضا ، بعدما أصبحت " الطائفية " أو الشعور الطائفي جزءا من تكوينهم النفسي المرتبط بحكم الأكثرية فيما لو حصل وخضوعها ألقسري لها ، وربما شعورهم الطائفي هذا قد بدا لهم طبيعي ، بالتالي من غير الطبيعي أن لا يشعر احدهم به ، وكأنها أضحت التعبير الحقيقي عن مصالح الطائفة الحقيقية ..
لعل الظروف الدولية الفاعلة في مرحلة تاريخية معينة مرت على سوريا ، أدت إلى تطور " الفكر الطائفي عند بعض العلويين " ، وهو ما ترك تأثيره الواضح على هذه الطائفة بشكل عام ، الأمر الذي جعل " حافظ الأسد " يستغل هذا الشعور الطائفي الملتهب أو " الطائفية المستثارة " لمكاسب ضيقة ، لم تكن في البداية إلا ربما " فردية شخصية ، ومن ثم تحولت فيما بعد إلى مصالح متشابكة ومتداخلة لمجاميع عائلية من نفس الطائفة " ، وهذا أمر طبيعي ومفهوم ، إذا ما أخذنا بالاعتبار البناء النفسي والاجتماعي ، والأهداف المريضة المحركة لـ " أبو الطائفية المعاصرة في سوريا والمنطقة " ، وترتيبه الأول بلا منازع وبامتياز في سلم الطائفيين ..
هو البادئ باستنفار الشعور الطائفي عند العامة من أبناء الطائفة العلوية ، وهو من وضع أسس وأصول الطائفية في المنطقة ، قولا وفعلا وثقافة ، سيما وأن شعوره الدائم بالدونية والنقص تجاه المكون الاكثري في النسيج السوري كان الحاضر الدائم في كل تاريخه السياسي ، ومن قبله العسكري ، لكونه من جاء من " أقل الأقلية " وربما المنبوذة منها ، والمؤكد أن بدون الاعتماد على الطائفة وربطها به وبأحلامه ، وبدون الاستظلال بظلها أيضا ، ما كان سيستقر له الحكم طوال الفترة الماضية ، وانتقاله السهل فيما بعد موته لابنه ..
لكنني هنا يجب أن لا أغفل عن أمرين مهمين ، لابد لي من ذكرهما في هذا السياق ، يمكن إضافتهم لما سبق :
الأول : هو انعدام الرغبة عند الأكثرية السورية بالاستفراد بالسلطة أو إدارة الدولة ، وترك انطباع للأقليات بأنه ليس هناك من فارق يفرق بين مكونات سوريا ، أو أن لدى الأكثرية نية في تهميش طائفة بعينها أو أحد من طائفة أي طائفة كان تتوفر فيه الكفاءة اللازمة لتولي أعلى مناصب الدولة السورية ..
الثاني : هو أنه ربما كان لتوغل المتوغلين وجشع المنتفعين والمنغمسين في متع المكاسب والمغانم السهلة دور كبير في زرع ثقافة الفساد المرتبطة بـ " الطائفية " أو الشعور الطائفي ، بالتالي منع الناس من الاقتراب من كل ماله صلة بمفهوم الحرية أو العدالة .. ولا حتى مساءلة المسئول ومحاسبته ، للمحافظة عن ما حصلوا عليه بطرقهم الغير المشروعة ..
فهؤلاء بتقديري الخاص فهموا جيدا ماهية " الطائفية " وما يمكن لهم أن يجنوا من خلالها أو بها من فوائد ، فامتهنوها ، وتفننوا في استغلالها واستعمالها ، لدرجة أنهم ربما اعتبروها الوسيلة الأفضل لديمومتهم والطريقة الأنجع لتحقيق مصالح " اللاهثين وراء المصالح من أنظمة دول المحيط الإقليمي والدولي " المستظلين بظلهم والداعمين لوجودهم في سلطة البلد ، فكان من الطبيعي استخدام كل ما لديهم من إمكانيات أو قدرات في سبيل استمرارها وتطويرها كما أسلفت ، وبما يحقق لهم بالنتيجة أهدافهم ..
ولو تم ذلك من خلال استثارة مكونات الطوائف والأقليات المشابه الموجودة خارج حدود الدولة السورية ، وربطها مصيريا بروابط " عائلية شخصية مصلحيه " في سبيل تمكينهم من الثبات في وجه أي حراك داخلي قد ينشأ مستقبلا ، ومنع انفلاته ، كالذي يحصل هذه اليوم ..
هذا المسلك " الطائفي " بالتأكيد لم ولن يترتب عليه أي التزام بأي إصلاح أو تطوير أو تنمية أو تغيير سريع لا في تركيبة الحكم القائمة ولا في مؤسسات الدولة ولا إداراتها ، لمنع ما قد يؤدي في النهاية إلى تقلص شيء من قدراتهم وقوتهم ، ومما كسبوه أو اغتنموه في هذا المسلك ، كي لا يؤدي أي تنازل إلى انهيار منظومة سلطتهم بكاملها ..
هنا لا بد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة وضرورية : وهي أن الطائفة العلوية الكريمة كما هو معروف ليس لم يكن لديها مرجعيات " طائفية " خاصة بها ومعلومة تدير شؤونها الطائفة ، كما أنه ليس لها حتى دور عبادة خاصة ومتميزة ، وليس لها ثقافة منقولة ومتداولة أو مدونة تتميز بها عن بقية المجتمع السوري ، فيها تمايز ، أو اختلاف عن البقية الباقية من ثقافة مكونات الشعب السوري ، فثقافتها كما هو معلوم متولدة من ثقافة النسيج الاجتماعي التي هي جزء منه ، ولا تختلف بأي حال من الأحوال عن الثقافة العامة العربية السورية الإسلامية .
فيما ما مضى ربما وبحسب معرفتي لم يكن يعرف السوري عن ماهية عقيدة أخيه السوري الآخر شيئاً ، ولا حتى من أي طائفة هو قادم ، ولم ولا يعنيه هذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد ، فحالات الزواج والمصاهرة مابين الطوائف موجودة ، وأكثر مما يتصورها أحد ، وربما لا يمكن أن تحصى أيضا..
أنا شخصيا أزعم بأن " العلوي العادي التابع للطائفة العلوية " لا يعرف من " علويته " شيئا ، وربما لا يدري ما تعنيه كلمة " علوي " ، إلا في إطار المفهوم العام والتسمية الظاهرية المرتبطة بـ " الإمام علي بن أبي طالب "( رض) ، ومحبة مجموعة من الناس لشخص وسيرة حياة هذا الإمام العظيم ( رض) ، وفي هذا المفهوم من منا نح المسلمين لا يحب هذا الإمام ويجله ويذكر أقواله ، ويستشهد ببعضها وبشكل دائم .
والحقيقة أن " الطائفة العلوية " كمكون اجتماعي موجودة في النسيج الاجتماعي السوري منذ القدم ، وليست طارئة أو جديدة عليه ، ولها حضورها الاجتماعي الفاعل ، والتفاعل من المنتمين لها واضح وبشكل جلي ، وأفرادها يتشاركون معنا في أشياء كثيرة وأهم هذه الأشياء هي الوطنية ، وهذا باعتقادي هو الأساس الذي يمكن البناء عليه ..
أما " الطائفية أولا والطائفية العلوية ثانيا " فإنها بالقطع لا تملك الأساس المادي لتحسسها ، ولا تمتلك هياكل تنظيمية معلومة ، لكونها نتيجة لتحريض فكر منحرف يعمل خلفها ويمول نشاطها ويفعّل دورها الذي تقوم به .
لذلك مع التنوع الغني في النسيج الاجتماعي ، وعدم وجود خلاف حقيقي فيما بين الطوائف فاني أرى .. وحتى نمنع مستقبلا على كل شخص وصولي انتهازي مثل " حافظ أسد " أو اليوم وريثه المعتل " بشار الأسد " من التصرف بالبلد باعتباره مزرعة له ولأولاده مدعومين من أناس مستثارين طائفيا ، ومعتقدين أن الدفاع عن أمثالهم هو دفاع عن الوطن ، بمعنى آخر حتى لا يكون في سوريا مستقبلا من لا يميز بين الوطن وقيادة الوطن ، فانه لا بد من بناء جيش وطني لا يتبع لا فكريا ولا عقائدياً لأي سلطة كانت أكثرية أو اقليه ، والهم الأول والأخير لهذا الجيش هو حماية الوطن من التهديد أو الاعتداء الخارجي ، كما أن المطلوب وبشكل ملح كذلك هو بناء جهاز أمني شرطي متخصص مؤهل ، ومسلح بالقوانين التي ترعى حقوق الإنسان ، وتحفظ كرامته ، يقوم على حماية الأمن الداخلي للبلد ، ويكون لهذا الجهاز ، جهاز رقابة وتفتيش لمتابعة المنضوين تحته ، يمنع التجاوز والاستغلال لأي دور أو منصب فيه ..
أيضا .. الانتباه إلى ضرورة فصل إدارة الجيش عن شخص الرئيس كائن من كان هذا الرئيس ، وجعلها إدارة جماعية لا مانع من أن يكون الرئيس عضواً في إدارتها ، والحد من صلاحيات رئيس الدولة القادم لصالح رئاسة الوزراء ، والكل في الرئاسة والحكومة ، مسئول أمام الشعب ، يتم مساءلة أي مسئول أمام القضاء بالصفة الشخصية في حالة ارتكابه للمخالفات المنصوص عنها بالقوانين مثله مثل أي فرد من أفراد الشعب السوري ، وتتم مساءلة أي مسئول بصفته الرسمية أمام المجلس التشريعي أو الشعب أو النيابي ..الخ ، وربما تنتزع الشرعية عنه.
أخيرا .. وقبل هذا وذاك يجب فصل " السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية " ومنع أي هيمنة من احدها على الأخرى ، واستقلال القضاء بشكل تام ، وإصدار قوانين صارمة تجّرم كل من يستغل أو يستثير المشاعر الطائفية ، أو الدينية ، أو المذهبية ، أو العرقية ، أو القومية ، لأي سبب كان ، ولتكن القوانين في هذا المجال أقوى من قوانين المتعلقة في محرقة " الهولوكوست " اليهودية ، ولتكن القوانين أيضا أكثر صرامة وشدة تجاه كل من يقترب منها حتى لو كان خارج حدود سوريا ، ولما لا ..!؟